نشرت 13-2-2023 في موقع وجريدة الوفد

ــــــــــــ

خارج السطر

ـــــــــــــــــــــ

في ذم الشعارات

بيني وبين الشعارات الرنانة خصومة قديمة منذ الصغر. كلما تضخمت الكلمات، ارتفع منسوب التشكك داخلي، وكلما تلونت العبارات وتجملت مقاطعها، يطل شيطان التفكر والتدبر مليا ليتابع عن كثب.

 أدرك وأعترف أن التفخيم عادة شرقية، ومنافسات الكلام نهج عربي أصيل، لكن العالم يتغير، ويتبدل، والشعوب تترقى وتتطور، وكم من أمم آنية خالفت مسارات ودروب قديمة ومعتادة لتحلق في سماوات التقدم.

القراءة المتأنية للشعارات الرسمية في التاريخ الحديث، تزيدنا تنويرا. فمع كل نظام جديد، ثمة شعارات رنانة.  فلما وصل ضباط يوليو إلى حكم مصر 1952، وخلصت لهم البلاد، ولد شعار “ارفع رأسك يا أخي فقد مضى عهد الاستعباد”، لكن استمرار سياسات القمع واتساعها أفقد هذا الشعار مضمونه ليسخر منه خصوم يوليو فيما بعد بقولهم “ارفع رأسك يا أخي إن كنت مستغنيا عنه”، أو “ارفع رأسك يا أخي ليسهل علينا قطفه”.

ولم يكن غريبا أن يصك المنتفعون بثورة يوليو شعارا لتبرير سياسات القمع المطبقة ضد كل صاحب رأي مخالف هو ” لا حرية لأعداء الحرية”، حتى ذاق صانعو الشعار أنفسهم مرارة غياب الحرية عندما اختلفوا فيما بعد بعضهم البعض.

وبعد هزيمة يونيو المنكرة رفع المناصرون للقائد شعاره العنتري “ما أخذ بالقوة لا يمكن أن يسترد إلا بالقوة”، ثم أثبت الرئيس السادات بعد أقل من عشر سنين أن ما أخذ بالقوة يمكن أن يسترد بالمفاوضات والسياسة والمبادرات والحشد الدولي.

وكانت من المآسي الموجعة أن شعار “دولة العلم والإيمان” الذي صكه الرئيس أنور السادات وصفا لنظامه تحول على أيدى الجماعات المتأسلمة إلى فرصة سخرية وإزدراء وصل إلى تكفير صاحب الشعار نفسه الذي تقبل برضا وصف مصفقيه له بالرئيس المؤمن، ثم استحل المتأسلمون دمه واغتالوه غدرا وسط رجاله في يوم انتصاره.

ربما كان ذلك دافعا أن ينأى نظام الرئيس مبارك بقدر المستطاع عن الشعارات الرنانة، لكن لأن شلل الهتيفة في كل زمان لا يمكن أن تصمت إلى الأبد، فقد حاول البعض اطلاق شعارات تتفق مع الاستقرار والتنمية.وأتذكر بشكل شخصي شعارا إقتصاديا تولد مع الألفية الثالثة كان يقول “التصدير حياة أو موت”، ومرت عشرون عاما على ميلاد الشعار، ولم ينمو التصدير أو يتحول لمسار تنمية وظل الشعارصالحا للتكرار.

ومن الشعارات خفيفة الدم التي أولدتها الأزمات المعيشية في السبعينيات شعار “شدوا الحزام” والذي جاء كدعوة للتوفير وضبط الاستهلاك من جانب المواطنين، لكن لأن هناك كثيرين لا يحصلون على الحد الأدنى لمتطلباتهم، فقد ردوا بأنهم ليس لديهم ثمن الحزام نفسه حتى يقومون بشده!

لقد حكى لي والدي رحمه الله، وكان أستاذا جامعيا أن أبرز ما لفت نظره عندما سافر بغداد بداية الثمانينات ليُدّرس هناك، أنه رأى شعارا ملطوعا على الجدران في المطار، وفي كافة الميادين يقول “أمة عربية واحدة ذات رسالة خالدة”، وهو شعار حزب البعث الوحدوي. وعاش أبي ليرى في سنة 1990 كيف احتلت عراق صدام حسين الكويت في بضع ساعات، لكنه لم يعش ليرى فيما بعد كيف تمزقت العراق ذاتها إلى ممالك ودويلات عديدة.

يقول نزار قباني في تفسيره لهزيمة حزيران ” إذا خسرنا الحرب لا غرابة/ لأننا ندخلها بكل ما يمتلكه الشرقي من مواهب الخطابة/ العنتريات التي ما قتلت ذبابة/ لأننا ندخلها بمنطق الطبل والربابة.”

ويقول محمد الماغوط “ما أذرب ألسنتنا فى اطلاق الشعارات/ وما أرشق أيدينا فى التصفيق لها/ وما أعظم جلدنا فى انتظار ثمارها.”

والله أعلم

مصطفى عبيد

mostafawfd@hotmail.com

 

Leave a comment