نشرت في الوفد 26-6-2024
عصف فكري
ـــــــــــــــــــ
من الزُهد ما أفقر وأوهن
لفت نظر الشيخ محمد الغزالي يوما صياد بسيط كان يجلس إلى شاطئ البحر في مدينة الجزائر العاصمة. رمى الصياد سنارته، وانتظر صابرا، ساعة أو أكثر حتى غمزت سنارته، فسحب الخيط ليجد سمكة كبيرة مُبهرة. لم يكد الرجل يراها حتى تهللت أساريره فرحا، ثم فك وثاقها وألقى بها في سلته، وحمل حقيبته، وغادر راضيا. لحقه الشيخ الغزالي ـ وفق روايته – وسأله عما يدفعه للمغادرة. وقال له : ألم يكن من الأفضل أن تزد مكوثك ساعتين أو ثلاث لتصطاد سمكا أكثر. ردَّ الصياد بأنه حصل على رزق اليوم، واكتفى فما اصطاده يكفي لاطعام أسرته. لكن الشيخ جادله بأن رزق اليوم مفتوح، وأنه كان يمكن أن يصطاد المزيد من الأسماك ويبيعها ويحقق ربحا أكبر.
هذه الحكاية التي حكاها الشيخ الغزالي رحمه الله نموذج شائع لتصورات عامة بين الناس، بأنهم حازوا رزقهم، وأنه لا سبيل للمزيد من العمل والانتاج للحصول على المزيد والمزيد. وهؤلاء يتدثرون بنصوص عديدة من التراث تحض على القناعة وتُحرض على الزُهد وتُحفّز على الرضا بالقليل. وهي نصوص نقية وطيبة وجميلة/ لكن ترسيخها وتكريسها في مجتمعات تنشد النو مثل مجتمعاتنا يُفتت طموحات البشر، ويصُب في خانة الكسل والإتكال ويساهم في ضعف الانتاج
***
يبقى الزُهد قيمة عظيمة، إذ يؤمن الصالحون دوما بأن كل شئ إلى زوال. الدنيا ممر وليست مقر، وكل نعمها مؤقتة. والأعظم والأحكم أن نعمل للآخرة. لا جدال في ذلك بين مَن آتاهم الله الحكمة. لكن ما يمنع أن تكون ممراتنا إلى الآخرة رحبة، ومفروشة بالورود؟ من قال إن الإنسان مُخيرّ بين نعيم الدنيا والآخرة؟ أوليست نعم الله مكفولة لعباده في الدنيا مادامت دون جور أو أذى؟
لقد كانت حكايات الزهاد والمتصوفين مثيرة وشيقة وهي تسري بين الناس قرونا وقرون، لكن مردودها الفعلي كان مزيد من السلبية والسكون والجمود، ووصل الأمر للبعض أنهم تركوا كل شئ وتفرغوا للعبادة وعاشوا عالة على الآخرين. وهكذا فترت الهمم، وخمدت الآمال، وووهنت السواعد، ولم يحاول مَن يُفترض حراكهم تغيير أوضاع حياتهم، فلم يجتهدوا ولم يُغيروا، ولم يسعوا السعي اللازم لتغيير الحياة.
***
في حقيقة الأمر لم يكن الدين أبدا حجر عثرة أمام تقدم الشعوب وتحضرها وتنميتها ، لكن الفهم المغلوط للدين كان سببا فى الترويج للزهد ، والرضا بالفقر، وعدم السعى وراء الرزق أينما كان . أقول ذلك والتراث العربى ملىء بفخاخ من التواكل ، والكسل ، وتقييد النجاح بدعاوى القناعة. اقرأوا اذا أردتم ما شاع وذاع عن دخول الفقراء للجنة قبل الأغنياء، وتمنى بعض السلف أن يبعثوا مع زمرة المساكين ، والحديث الضعيف المنتشر عن كون الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر.
كل هذا فى ظنى لا علاقة له لا بالاسلام ولا بالمسيحية ولا بغيرها من الأديان السماوية التى جاءت لتخرج الناس من الظلمات إلى النور، ومن الظلم إلى العدل، ومن الفقر إلى العيش الهانىء. تذكروا قوله تعالى : ” وقال استغفروا ربكم إنه كان غفارا. يرسل السماء عليكم مدرارا. ويمددكم بأموالٍ وبنين . ويجعل لكم جناتٍ . ويجعل لكم أنهارا”.
تحت لافتات الزهد المتطرف توقفت كثير من الأيدى عن العمل ، وباسم التوكل على الله سكنت كثير من النفوس عن السعى نحو الرزق ، وبعبارات الارهاب والتخويف من الثراء رضت عقول عدة بما لديها من مال ولم تسع لمضاعفته وتنميته. وكان النتاج المر أن شعوبنا العربية والاسلامية لم تبتكر ولم تتطور ولم تقدم ما يفيد البشرية علما أو اقتصادا أو فكرا.
سبات فى سبات وسكون طاغ تملكنا فصرنا نرى كل صاحب مال شرير، وكل ثرى جشع ، وكل ملياردير سفاح.
***
سُئل رجل الأعمال الشهير بيل جيتس يوما عن حكمة حياته فقال : ” ليس خطأك أن تولد فقيرا، ولكن خطأك أن توت فقيرا”.
يرى الرجل وربما يكون محقا في بعض ما يراه أن الفقر ضعف، وكسل، وسكون،وليس مجرد سوء حظ أو قدر . إن الله يمنح الانسان القدرة على التغيير، والتطوير، والنمو، والسعى لكن البعض يقبع ساكنا معتبرا أن الله قدر له الفقر وعليه أن يرضى.
إن السعى وراء المال ليس عيبا ، ولا ينبغى أن يكون ، وحلم الثراء ليس جريمة . إنه خير للحالم ولمن حوله . وما زال تاريخ السلف يحكى لنا حكاية الصحابى الجليل عبد الرحمن بن عوف الذى بلغ ثرائه حدا خياليا ، فسأله الناس كيف كان ذلك ؟ فقال لهم : أمران التزمت بهما .أولهما إننى ما بعت معيبا قط ، وثانيهما أننى سافرت من أجل درهم . وهو ما يعنى أنه سعى وراء حلمه وحققه بأصول النجاح الحقيقية ، لا بالقاء الحب وانتظار السماء أن تمطر فينمو متصورا أن الله يرزق الكسالى والساكنين.
نحن في حاجة لمراجعة التراث واعادة فهمه وهضمه، فليس كل ما يلمع ذهبا.
والله أعلم
مصطفى عبيد
Leave a comment