نشرت في الوفد 4-3-2024
عصف فكري
ـــــــــــــــــــــــ
بحث في أسرار التخلف العربي الإسلامي
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
بقلم ـ مصطفى عبيد
ـــــــــــــــــــ
التخلُف لُغةً يعني التأخر. تخلّفَ أي صار في الوراء. وتخلّف فلان أي لم يحضر. وتخلّف الركب أي تقهقر، أو ثبُت في الخلف. وتخلف النمو أي تباطأ.
وعموما، فإن المصطلح سلبي، وكريه، وموجع، لكنه مثير لخلايا البحث أن تنتفض، ومُنبه لماكينات الأفكار كي تعمل.
وبهذا التعريف فإن العالم العربي، والإسلامي مُتخلِف. ولا سُبةً في ذلك، ولا تهوين أو إزدراء، وإنما هو وصف علمي منهجي يقوم على قرائن. ففي التصنيفات العالمية للعلوم والمعارف والإنجازات لسنا في المُقدمة، ولسنا حتى في مواقع متوسطة، وإنما في الصفوف الأخيرة، ذلك بأننا ل نقدم أي مساهمات حقيقية تنفع الإنسان.
وهنا، فإن واحدة من الإشارات المباشرة والواضحة هي جوائز نوبل العالمية، والتي تمنح في مجالات الطب، الكيمياء، الفيزياء، الاقتصاد، الآداب والسلام، فعدد الذين فازوا بها من العالم العربي كله بلغ إثني عشر شخصا فقط.
بينما فاز بالجائزة حتى عام 2020 نحو 336 أمريكيا منهم 95 في مجال الطب، و90 في الكيمياء و70 في الفيزياء، وفاز بها 117 بريطانيا منهم 29 في الطب و29 في الفيزياء، و25 في الكيمياء، وفاز بها 98 ألمانيا منهم 32 في الكيمياء، و24 في الفيزياء، و17 في الطب. كما فاز بها 62 فرنسيا منهم 13 في الفيزياء، و11 في الطب، و17 في الأدب.
وقد يقول قائل أن وراء ذلك سياسات تمييزية ونظرتن استعلائية ينظر بها الغرب (الولايات المتحدة وأوروبا) تجاه دول الجنوب، أو المستعمرات السابقة، وهو قول ساذج لكنه يتكرر كثيرا على ألسنة مثقفي المبررين العرب. غير أن ما يرده بشكل قاطع هو فوز خمس وعشرين يابانيا بالجائزة، رغم أن اليابان ليست من دول الغرب، بل وكانت في مراحل تاريخية عديدة من أعدى أعداء العالم الغربي.
وبنظرة أبسط يُمكن طرح سؤال عن أهم الاختراعات العالمية في القرن الواحد والعشرين والتي حددها العلماء وفقا لتأثيرها على الإنسان وتضمنت : هندسة المحولات، والجوالات، الانترنيت، الجينوم البشري، الجي بي إس، الطائرات دون طيار، المركبات ذاتية القيادة، ونسأل عن نصيب المخترعين العرب منها لنكتشف أنه صفر.
وقبلها لو نظرنا لاختراعات القرن العشرين العظيمة وأهمها الطاقة النووية، الكمبيوتر، الطائرات، السيارات، الصواريخ، الغواصات، التلفزيون، الراديو، فوقتها لن نجد عربيا واحدا كانت له أي مساهمة.
أما ما ينفع الناس وينفع صحتهم، ويمد في أعمارهم، ويُخفف آلامهم ومعاناتهم مثل البنسلين، المورفين، الأشعة، جراحات التجميل، الأجهزة التعويضية، ولقاحات الأوبئة، فكلها منجزات غربية بحتة، استخدمناها واستفدنا بها، ولم نُفكر أبدا في مجاراتها وتطويرها والإضافة عليها.
إنظروا أيضا إلى ترتيب الجامعات في العالم، وأسألوا أنفسكم أين جامعات العرب؟ أسألوا عن أفضل مناهج التفكير، وابحثوا عن شخص عربي شارك في وضع أيا منها؟ مَن هُم المفكرون العرب، وما هو مقدار إسهاماتهم الحقيقية؟
إن الموجع، بل والمؤسف أننا مازلنا ننظر بفخر إلى إنجازات علمية سبق بها علماء أفاضل انتموا إلى عالمنا العربي الإسلامي قبل أكثر من ثمانية قرون، مثل ابن الهيثم، البيروني، ابن النفيس، وابن سينا، وغيرهم، لكنهم لم يتكرروا ولم يورثوا علومهم وأدمغتهم إلى أجيال تالية. ذلك بأنهم حوربوا ووجهوا بنُخب أزمنتهم التي وصمتهم بالكفر والزندقة والهرطقة وبكل الموبقات. ومن بعدهم لم نسمع عن مُكتشف كبير، أو عالم فذ، أو مبتكر يُمكن الإشارة إليه بالبنان.
إننا نُقلد ونُحاكي ونستهلك ونستخدم ونتابع ذلك العالم المتطور، دون أن نفكر برشد وقصد، وعمل ممنهج، وغيرة محمودة لأن تكون لنا إنجازات مماثلة. فنحن نُنكر التخلُف، لكننا لا نستطيع إثبات ذلك عمليا، ونعتبر هزائمنا، وضعفنا وهواننا دائما نتاج مؤامرات كونية تُحاك كل يوم ضد العرب، وضد المسلمين، وضد شعوبنا الطيبة المُستضعفة.
تتشعب أسئلة التخُلف لدينا وتتنوع وتصل إلى الإنسان البسيط الذي قد يتساءل في سذاجة : لماذا لا ننعم بالتقدم والرخاء؟ ولم نشعر دائما بالضعف؟ ولماذا تنتشر لدينا الخرافات ويتسع الفساد، ويسود الظلم، ونخسر في كافة الميادين؟ لماذا ننهزم في معظم المعارك؟
أتصور أن الموضوع ليس مصادفة، وليس صحيحا أن هناك بشر خلقوا للتقدم، وآخرين كُتب عليهم التخلف والهوان. مَن يعتقد بذلك يُناقض فكرة العدل الإلهي التي لا خلاف عليها بين معتنقي كافة الأديان.
وليس صحيحا ما ردده البعض، وللأسف كرره مثقفون عرب بأن المناخ الحار في نصف العالم الجنوبي يُرسخ لصفات الكسل، والخمول، والوهن، ومَن ثم يدفع البشر لتتخلف وتتخلف.هذا أيضا ضد العدل الإلهي، وضد الطبيعة.
وكما ظننت كثيرا، وكما مازلت أظن فليس الأمر نتاج مؤامرة غربية أمريكية إمبريالية، استعمارية، وماسونية ( ويُمكن هنا إضافة كل التعبيرات الرنانة التي يستخدمها المفسرون المحليون لتصب في ذات المعنى). فإن تصور أن هناك قوى خارقة قادرة على التآمر على الآخرين طوال الوقت يناقض الحراك الإنساني وتطور البشر.
والتفسير في ظني أبسط كثيرا. فكل سكون، وكل جمود، ودعة، واستسلام، وتجمد، وتوقف، ووهن مرده الأول هو خلط الدين بالسياسة سواء من قبل المحكومين، أو من قبل الُحكام. فمنذ العصور الأولى للأديان اعتبر المحكومون، أن السلطة ضرورة دينية، فسكنت النُخب عن الاجتهاد، وخملت عن التفكير والابداع، واستكانت وسلمت لما هو سائد، ومُستقر، وآحادي. وعلى الجانب الآخر وظف الحكام الدين، وهو مُقدس في حد ذاته لخدمة سياساتها وتصرفاتها غير المقدسة، فرسّخت بذلك ثقافة القطيع. ولم يكن غريبا أيضا أن يستخدم الخارجون عن السلطة والطامعون فيها الدين أيضا في تأجيج الناس ضد الحكام، فصار الأمر أشبه بمزايدة على السماء، وربح الأكثر تطرفا وتعصبا لتنغلق المجتمعات انغلاقا تاما.
وهذا ما يذهب إليه المفكر الأمريكي التركي أحمد كورو في كتابه المهم “الاسلام: السلطوية والتأخر” عندما يُشير بوضوح إلى أن التحالف الذي عُقد في القرون الوسطى بين التعصب الديني والاستبداد السياسي في العالم الإسلامي استمر قرونا وصار جزءا لا ينخلع عن التراث السائد. ويذهب أحمد كورو إلى أن ترسيخ المقولة الشهيرة للإمام أبو حامد الغزالي بأن الدين والحُكم توأمان، جاءت على هوى السلطة السياسية الدينية، واستخدمتها بضراوة الدولة العثمانية في التمدد والتوسع شرق وغربا.
ولم يكن غريبا بعد ذلك أن تواصل الفكرة تمددها حتى القرن العشرين، فيحكم مستبدون بلادا بزعم مسئوليتهم الدينية، ويؤسس مستغلون تنظيمات إنقلابية ترفع شعارات دينية، وتندلع ثورات وتقع حوادث دمار وتخريب، ويسقط ضحايا في ظل صراع الدين وهو المُقدس المنزه، مع السياسة وهي المُدنس الإنساني.
لقد تقدم العالم الغربي لأنه أبعد الدين عن السياسة تماما، فصار ما لله لله وما لقيصر لقيصر. وفتحت العلمانية الصحيحة في فتح آفاق للتطور والتفكر والتدبير والتغيير. وما نستطع طرحه الآن هو أن فصل السياسة والإدارة عن الدين، وعدم تلبيس السياسات وتصرفات البشر أردية التقديس يعد ضرورة إسلامية تحقق الإصلاح الحقيقي لبلادنا الناعسة. ولاشك أنها الطريق الأمثل لنثر التعددية الفكرية في المجتمعات وتحفيزها على الحراك، والتفكير، والابداع.
ذلك تفسير ما لم أستطع علي كتمانه صبرا، فكتبته للناس موقنا أن رأيي صواب يحتمل الخطأ ورأي غيري خطأ يحتمل الصواب.
والله أعلم.
Leave a comment