نشرت في المصري اليوم بتاريخ 24 أبريل 2025
بدل السكوت
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المشروع الحضاري مازال غائبا
مصطفى عبيد
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
في يوم الأحد الموافق الرابع والعشرين من يونيو سنة 2013، وبينما كانت الصحافة ووسائل الإعلام في مصر منشغلة بدعوات التظاهر ضد حُكم الإخوان، وكان الشباب يمر على المقاهي والأزقة لجمع توقيعات للدعوة لإجراء انتخابات مُبكرة، ووضع دستور توافقي، وقعت جريمة مروعة في قرية هادئة من قرى مصر المنسية هي قرية زاوية أو مُسلم، التابعة لمركز أبو النمرس بالجيزة.
بدأت الحكاية عندما أخبر أحد الأشخاص أهالي القرية بأن بيت فلان يستضيف داعية شيعي، زنديق اسمه حسن شحاته، معروف بكفره ، وحكم علماء الأمة بأنه وأمثاله أشد خطرا ُ على صحيح الدين من الصهاينة. انتقل الخبر من بيت إلى بيت، وخلال دقائق تجمع العشرات حول منزل المضيف، وتقدم أحدهم بهدوء لصاحب المنزل داعياً إياه أن يُسلمهم المدعو حسن شحاتة دون مقاومة حتى لا يتعرض للأذى. وبطبيعة الحال فقد أبت شهامة ونُبل المضيف تسليم ضيفه، واتصل بجهات الأمن التي كانت مُنشغلة وبعيدة عن القرية المُهمشة. وهكذا تسلح المجاهدون من العامة بالهراوات، وزجاجات المولوتوف، وجراكن الكيروسين ليهدموا جدار المنزل في دقائق قليلة ويحرقوا البيت، ويخرجوا من فيه، وينفردوا بفريستهم ويسحلونها حسن بصورة بشعة، وسط التكبيرات والتهليلات.
الفلاش باك يُخبرنا أن هذه الجريمة وغيرها من جرائم سفح دماء المختلفين عقائديا بدأ التحضير لها مُبكرا، ومُنحت صكوك الشرعية الأولى خلال عهد الرئيس السادات، الذي اختار وتقبل لنفسه لقب الرئيس المؤمن، في لفتة مُدهشة تدعو للاستغراب من أركان الدولة والنخبة التي وثقت اللقب لدرجة تدوينه على بعض أعمال تجديدات المباني، ونشره في الصحف الحكومية. ورغم أنه نفسه راح ضحية خياره الانتهازي، فإن الرئيس حسني مبارك سلفه الأكثر حنكة، والأشد مكراً كرر التجربة لكن بنسخة أخرى، إذ استخدم التيار السلفي الممالىء لمواجهة التيار الجهادي الراديكالي، فقرّب وشجّع وساند إرهابيين ناعمين نددوا بعنف الجماعات المتأسلمة ليمارسوا عُنفا أشد ضد المبدعين وأصحاب الفكر، وسمح لهم بالتمدد في القرى والنجوع والعشوائيات ليغرسوا رؤى تشع كراهية ونكرانا وإقصاء لكل آخر.
يبدو هذا الخيط منسياً رغم وضوحه، في ظل العنف المتبادل بين نظام مبارك والجماعات الراديكالية المتأسلمة مثل الجهاد والجماعة الإسلامية والجماعات المنشقة عنها، غير أن باحثا ذكياً هو وائل لطفي تابع ذلك، وقرأه، وحلله بُعمق في كتاب حديث صدر عن بيت الحكمة بعنوان” دعاة عصر مبارك.. سيرة التسعينات”. لاحظ “لطفي” أن بعض رموز نظام مبارك لعبوا أدوارا قوية في السماح للجماعات غير المجاهرة بالعداء للدولة بالانتشار في كل مكان بهدف ما يعرف بـ”أسلمة المجتمع من أسفل”، وهكذا تسلفنت البلاد ومَن عليها، وبدت خطورة الأمر في استمراء البعض ممارسة ارهابه غير المُسلح ضد المجتمع في ظل ابداء الطاعة لولي الأمر. كان الأمر واضحا في إعلان شيخ مُتطرف عُرف بقضايا الحسبة ضد كل كاتب ومفكر هو يوسف البدري، مبايعته للرئيس مبارك سنة 1987 للإمامة العظمى بشرط تطبيقه للشريعة الإسلامية. وبدا الأمر أكثر وضوحا في تحويل عبد الصبور شاهين لبحوث علمية قدمها أستاذ جامعي هو د. نصر أبو زيد للترقي إلى فرصة لتكفيره وطرده من الملة، وصولا إلى رفع يوسف البدري وأنصاره دعاوى قضائية للتفريق بين الأستاذ الجامعي وزوجته بدعوى أنه مرتد.
في تلك السنوات أيضا ولدت نجومية دُعاة النوادي والمجتمعات الراقية، لتلتمع أسماء لها وزنها، فُتحت لها المنابر، وخصصت لها القاعات الكبرى، من أمثال ياسين رشدي، وعُمر عبد الكافي، وغيرهما وصولا للمد السلفي الأكبر خلال التسعينات وما بعد الألفية الثالثة ليستحوذ على الجماهير شخوص غامضين يقودونهم يمينا ويسارا دون أي تحرك من الدولة.
لم تنطفئ جذوة النار المشتعلة تحت الرماد، وتسببت المهادنات والمؤامات الخلفية خلال عصر مبارك في تمدد حُمى التطرف، والتدين الموجه، لتُهيمن على الساحة أفكار إقصاء لكل مختلف، وشرعنة تصفية الآخر، ورفض العقل والمنطق، وهو ما رأينا شواهده لاحقا في أحداث عِدة.
ولا شك أن طرح وائل لطفي، وغيره من الدراسات بشأن التيار الديني في عهد مبارك يذكرنا أن المعركة مع الإرهاب في بلادنا لم تنته بعد. صحيح أن جماعات زعزعة الأمن والخراب تفككت، وتبعثرت كوادرها بين سجن ومنفى، لكن الأفكار لها أجنحة كما يقولون، ومصر لم تبدأ بعد مشروعها الحضاري لفتح مدارات التفكير وتقبل الحوار والاجتهاد الديني، وأبسط دليل على ذلك تلك الغضبة المزعجة على رأي طرحه مفكر ديني مثل الدكتور سعد الهلالي.
إننا في حاجة إلى مشروع دولتي قومي لفتح النوافذ أمام حرية الفكر والابداع والعلوم، سعيا لصناعة جيل جديد يتقبل الآخر ويرفض العنف.
والله أعلم
Leave a comment