نشرت في الوفد 11-11-2021

ــــــــــــــــــــــــــــــــــ

خارج السطر

تأملات في تحولات البشر

 

كُنت دوما أتعجب من انقلابات الناس، وتحولاتهم. ما يُبدل أخلاقهم، ما يُلغي داخل ذواتهم الإنسان، ويوقظ الحيوان؟ ما يدفعهم أن ينسوا أن كُل شىء زائل، وأنه ثمة يوم عدل مُطلق لا مهرب منه؟ كنت أتساءل كثيرا: كيف تحدث لحظة التبدل؟

وعدت إلى التاريخ وسير السابقين مستقرئا ومُحللا، فوجدت أن فضل الله ونعمه قد يدفع بعض الناس للتجبر وُيجرجرهم نحو قاع انحطاط لا مثيل له.

في سيرة الجلاد الأشهر حمزة البسيوني نموذج واضح لذلك، فقد اكتشفت وأنا أعيد قراءة مذكرات السياسي الراحل فتحي رضوان، والمعنونة ” اثنان وسبعين شهرا مع عبد الناصر” أنه كان أحد من عرفوا حمزة البسيوني مبكرا جدا، قبل أن يُدركه فضل الله في منصب هام ونافذ في زمن عبد الناصر.

 يُدهشنا فتحي رضوان عندما يذكر حمزة قائلا” عرفته طالبا في كلية الحقوق قبل أن يتحول إلى الكلية الحربية، وكان شابا جميل الطلعة، يبلغ من البساطة والطيبة حد السذاجة، وكان يشارك في المظاهرات..”. ثم يشير “رضوان”  إلى أن حمزة تعرض لظرف جعله يتردد على مكتبه الخاص بالمحاماة، وهو أنه اتهم بقتل زميل خطأ في شقة يستأجرها مع زميلين من الطلبة، إذ كان يلعب بمسدس يظنه خاليا وانطلقت رصاصة لتقتل صاحبه، وكان يأتي لمكتب المحامي مع والده الذي يعمل في القضاء الشرعي، وكان وجهه يفيض سماحة ولطفا.

 وانقطعت أخباره سنين طويلة، وبعد أن صار فتحي رضوان وزيرا للمواصلات، ذهب لمحطة القطار، وفوجىء برجل ضخم يقف على المحطة، ويؤدي له التحية، فتفرس في وجهه، واكتشف أنه الشاب اللطيف الطيب الذي كان يعرفه  واسمه حمزة البسيوني بعد أن امتلأ جسمه وترهل وأصبح شاربه كثا. وسأله أين أنت يا حمزة الآن؟ فوجد اندهاشا باديا على وجهه، ثم تذكر أن الناس تتحدث في الخفاء عن غول شرس اسمه حمزة البسيوني، لكنه استبعد تماما أن يكون هو ذاته الشاب الطيب السمح، حتى أجابه حمزة في برود. وتساءل فتحي رضوان إن كان ما يقال عن الرجل محض افتراء وتلفيق أم صدق خالص، لأنه وجد نفسه أمام شخصين شديدي التناقض.

لكن عبد العزيز كامل، والذي صار وزيرا للأوقاف في سنة 1968 يقدم لنا شهادة أخرى عندما اعتقل في السجن الحربي سنة 1957، إذ قام حمزة نفسه بالتحقيق معه، وسأله عن عدد الشهادات الجامعية التي حصل عليها، فرد عليه ثلاثة شهادات. وهنا فقد انهال عليه صفعة مدوية، مرددا “هذه للشهادة الأولى” أتبعها بثانية أشد وهو يقول ” وهذه للشهادة الثانية” ثم أخرى مرددا ” وهذه للشهادة الثالثة”، ثم قال له ” هأوريكم الأدب يا بتوع الجامعة”.

وتفيض شهادات عشرات الضحايا عما لاقوه على يد حمزة البسيوني الذي ابتكر وسائل تعذيب جديدة دمغت عصرا كاملا بالسوء، وجعلتنا ننظر له بتقزز شديد.

 لكن حتى الآن فإن أحدا لم يُحلل لنا كيف تحول الشاب الوطني المعارض، ذو الوجه السمح والطيبة البادية التي رآها فتحي رضوان في البدايات إلى ذلك الوحش السادي الذي يتلذذ بصناعة الوجع. كيف صارت نعمة الله عليه بتكليفه بمنصب ما إلى نقمة عليه في الدنيا والآخرة!

أتذكر عبارة أثيرة لمكرم عبيد باشا يصف فيها الرجل الحق بأنه الذي يكبر ولا يتكبر، يتطور ولا يتغير، يحتفظ بثباته خلال وثباته. وأستعيذ بالله من التبدل والتقلب.

والله أعلم.

مصطفى عبيد

mostafawfd@hotmail.com

Leave a comment