نشرت في موقع وصحيفة الوفد أول نوفمبر 2021
خارج السطر
الذين يعبدون المرويات
أغار على ديني من حناجر زاعقة تطاردنا ليل نهار ككفار، تزعم أن أصحابها مسئولون عن صيانة الدين من شطحات المبدلين، وحماقات المثقفين، وتُكرس للجمود، ومخاصمة العقل والمنطق.
يظُن البعض أن المرويات الواردة في كتب التراث لا تقبل تفكيرا أو تدبرا أو تحليلا، وأن نقدها وتحليلها ورفضها يُمثل عدوانا على دين الله، وخروجا من دائرة الإيمان. ورغم أن كثير من المرويات المقدمة لنا هي نتاج فعل بشري اسمه “العنعنه”، يفيد الظن العلمي، مادام منقولا من شخص لشخص(أحاديث آحاد)، فإن مَن يسمون أنفسهم بأهل الحديث يرفضون أي مناقشة أو تشكيك أو عدم رضا عن مروية منسوبة للنبي رغم مخالفتها للمنطق البسيط.
وقبل أيام كرر عالم دين شاب رواية رائجة وردت في كتاب البخاري تفيد بأن النبي عليه السلام، توفي في المدينة ودرعه مرهونة لدى شخص يهودي، وناقشته في الحكاية، وقلت له إنها لا تصح مهما كان سند الرواة، ومهما كان حكم علماء الحديث على رواتها، لأنها تتناقض مع المنطق البسيط. فعندما توفي الرسول سنة 10 هجرية، لم يكن هناك في شبه جزيرة العرب أي يهودي، فمابالكم بالمدينة المنورة. لقد تم إجلاءهم جميعا قبل هذا التاريخ. كذلك، فإن اليهود لم يكونوا يرهنون أي شىء دون ربا، والإسلام حرم الربا تحريما صريحا باتا، ونهائيا. والأهم من ذلك، فإن النبي( ص) رحل ولديه أصول وأموال وممتلكات، ولم يكن في حاجة لرهن درع له عند يهودي. فضلا عن ذلك، فقد كان هناك تجار شديدي الثراء من المسلمين مثل عبد الرحمن بن عوف، وعثمان بن عفان، وغيرهما، ولو كان النبي في حاجة ماسة للاقتراض، فلم لم يقترض من هؤلاء وتركهم وذهب ليقترض من شخص يهودي.
والحقيقة، فإن العالم الشاب تقبل رأيي بصدر رحب، وقال إنه سيراجع الرواية، لكن أحد الغيورين على علم الحديث تدخل في النقاش، وسألني باستنكار كيف تعترض على حديث ورد في البخاري؟ من أنت أيها المثقف العلماني لتنكر رواية رهن درع النبي لدى يهودي، وقد أقرها إمام الحديث الأعظم؟ ثم صال الغاضب همزا ولمزا وجال مُرددا لعنات وويلات لمن ينكرون السنة، وكأنني شككت في عقيدة من عقائد الإسلام، أو أحللت حراما، أو روجت منكرا.
ابتسمت وقلت له “لقد ولد الإمام البخاري عليه رحمة الله بعد مئة وثمانين عاما من وفاة النبي، ومهما كان حرصه، ومهما كانت دقته في جمع الأحاديث، فإن الخطأ وارد، ولا يقين في أحاديثه، مهما قال القائلون أنها كذلك، فلا يقيني إلا القرآن الكريم.”
ولا يمكن أن نقدس البخاري، ونصادر على أفكار الناس ومحاولات تدبرهم بالعبارة الإقصائية “أنه أصح كتاب بعد كتاب الله”. لقد كان أكثر ما ينكره القرآن على الخطاب الرافض لأي نبي يدعو قومه للهدى هو قولهم ” وجدنا آبائنا لها عابدين” فهم لم يفكروا، ولم يتدبروا، ولم يناقشوا، وإنما ابتلعوا ميراث السلف كما هو.
وعدت لأكرر إن الحديث المذكور لا يضيف شيئا للإسلام، ولا يحض على خير، وإنما يثير من الشبهات واللغط أكثر مما يضيف من منافع، لكن آفة الإسلام كما قال المفكر الصديق عبد الجواد ياسين أن نعبد هذه المرويات، ونقدمها للأجيال القادمة باعتبارها دينا.
وحسبي أن أردد مع المصلح العظيم الإمام محمد عبده، رحمه الله ونفعنا بعلومه إلى يوم نلقاه، بيت شعر جميل ذكره في مرض وفاته يقول:” ولكنه دينٌ أردت صلاحه.. أحاذر أن تقضي عليه العمائم.”
والله أعلم.
مصطفى عبيد
اترك تعليق