نشرت ابريل 2021 في مجلة الهلال

ـــــــــــــــ

إرادة الأمة تعلو قوة السلطة.. قصة دستور 1923

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

 

مصطفى عبيد

ـــــــــــــــــــــــــــــ

رغم أن مصر كانت من أقدم دول العالم التي عرفت الدستور، عندما وضع محمد شريف باشا وزير الخديو إسماعيل الأكبر دستورا مبدئيا بسيطا سنة 1879، إلا أنه لم يستمر طويلا إذ تم تعطيله بعد ثلاثة سنوات بعد الاحتلال البريطاني 1882. من هنا، فإن كثيرون يعتبرون دستور 1923 هو أول دستور حقيقى لمصر يحدد بشكل تفصيلي وواضح نظام الحكم ويعدد حقوق المحكوم وواجبات الحاكم.

واللافت أن ميلاد الدستور شهد صراعات شبيهة بصراعات القوى السياسية التى واكبت دستور 2012 باختلاف واحد هام هو أنه لم يكن هناك تيار سياسى دينى .

وفي رأي كثير من المؤرخين، منهم الدكتور عبد العظيم رمضان، الدكتور رمزى ميخائيل، ومحمد فهمى حشيش أن دستور 1923 كان أحد أهم ثمرات ثورة 1919 تلك الثورة التي اشتعلت بدءا من 9 مارس عام 1919 احتجاجا على اعتقال سعد زغلول ومحمد محمود وحمد الباسل وإسماعيل صدقي ونفيهم إلى جزيرة مالطة في اليوم السابق. لقد عمت المظاهرات والاضرابات وأعمال العنف مختلف الأنحاء، وصل الحد باعلان استقلال بعض المدن المصرية، وأصيب الاحتلال البريطانى بالقلق وبدأت مطالبات المصريين بالاستقلال والدستور والحكم النيابى.

كانت الحياة السياسية فى مصر معطلة تماما منذ فرض الحماية البريطانية على مصر عام 1914 بدعوى الحرب العالمية الأولى، ولم يكن المصريون وقتها يشعرون بأدنى كرامة فى ظل استغلال ووصاية بريطانية وقمع لكل حركة وطنية ونفى لشباب وشيوخ طالبوا بالاستقلال بدءا من محمد فريد وحتى عبد العزيز جاويش وغيرهم .

ومع اتساع خسائر بريطانيا بسبب الثورة، اضطرت السلطات البريطانية إلى الافراج عن سعد وصحبه وبعثت بريطانيا إلى مصر لجنة لتقصى الحقائق عرفت بلجنة ملنر وقاطعها حزب الوفد فعادت دون عمل، وتطورت الأوضاع عندما عقدت الجمعية التشريعية المعطلة منذ 1914 اجتماعا استثنائيا فى منزل سعد زغلول بعد عام واحد من الثورة ورفضت  فيه قرار الحماية البريطانية وطالبت باستقلال مصر والسودان.

فى تلك الأثناء كان الشباب الوطني يؤلف تنظيمات بعضها ارتبط مباشرة بالجهاز السري لثورة 1919 والذي كان يقوده عبد الرحمن فهمى وبعضها لم يرتبط به، الا أن النتيجة كانت واحدة هى اجبار الساسة المصريين على عدم التعاون مع بريطانيا بعيدا عن الزعيم سعد زغلول. وفى مايو 1920 استقال يوسف وهبة باشا بعد أن حاول شاب قبطي هو عريان سعد يوسف اغتياله وقام بتأليف الوزارة محمد نسيم . وفى باريس بدأت مفاوضات الوفد المصري مع بريطانيا ورفض معظم أعضاء الوفد المشروع البريطاني المقترح للاستقلال وقطع المفاوضات وبعث سعد ببيان إلى الأمة يعلن فيه موقف الوفد والذى شهد خلافا شهيرا مع عدلى يكن وجماعته.

ارهاصات الدستور

وفى مارس 1921 شكل عدلي يكن الوزارة وكان مما أعلنه التحضير لدستور مصري موافق للمبادىء الحديثة للأنظمة الدستورية. وقتها خرجت المظاهرات ضد عدلي يكن مؤكدة تمسك الأمة المصرية بسعد زغلول وجرت اضطرابات عنيفة سقط فيها كثير من الضحايا من المصريين والأجانب واضطر عدلى يكن إلى الاستقالة فى ديسمبر 1921قبل أيام قليلة من القبض على سعد زغلول ونفيه للمرة الثانية إلى جزيرة سيشل .

وفى فبراير 1922وتحت ضغط الشارع المشتعل وعلى إثر عمليات استهداف الجنود البريطانيين إضطرت بريطانيا إلى اعلان إلغاء الحماية على مصر ، وصاحب ذلك تشكيل وزارة عبد الخالق ثروت الذى أعتبر أن مهمته الأساسية هي وضع دستور للبلاد.

ورغم الرفض الشعبي من جانب فئات المجتمع والساسة، فقد أصرت وزارة ثروت على تنفيذ مشروع الدستور، فألفت لجنة اطلق عليها لجنة الثلاثين لوضع دستور للبلاد برئاسة حسين رشدي رئيس الوزراء السابق بالغضافة إلى مجموعة من المفكرين ورجال القانون والعلماء ورجال الدين والتجار ورجال الأعمال.

وكان من المثير أن اللجنة ضمت وقتها ممثلين للطوائف الدينية الثلاث هم الشيخ محمد بخيت شيخ الأزهر، والأنبا يؤانس بابا الأقباط فضلا عن يوسف قطاوى رجل الاعمال وممثل الطائة اليهودية. وقد عملت تلك اللجنة فى ظل مقاطعة الوفد ــ أكبر الأحزاب المصرية فى ذلك الوقت ــ ورفض الحزب الوطني ــ وهو أكثر الاحزاب تطرفا فى الوطنية، وعدم رضا الملك فؤاد الذى كان لا يرغب فى منح حقوقا سياسية للمصريين فى ظل هيمنته على شئون الحكم.

ومع ذلك قامت لجنة الثلاثين بمهمتها وقدمت إلى الحكومة فى 21 اكتوبر 1922 مشروعا للدستور لذلك فقد دبر الملك تنحية حكومة ثروت رغبة منه فى تعطيل صدور الدستور بدعوى اتصاله بالخديو السابق عباس حلمي.

وتم تكليف محمد نسيم باشا بالوزارة ووقتها ــ وطبقا للمؤرخ عبد الرحمن الرافعى ــ طلبت بريطانيا منه تعديل بعض النصوص والتى من بينها لقب ملك مصر والسودان وأجابها لطلبها مما أشعل نيران الغضب الشعبي مرة أخرى. وتكررت حوادث العنف وظل منصب رئيس الحكومة شاغرا إلى أن الملك فؤاد به إلى  يحيى ابراهيم باشا.

تعديلات مرفوضة

كان غضب المصريين موجها إلى ما كان يتردد حول تعديلات أضافها عبد الخالق ثروت فى الدستور سلبت منه قول أن الامة هى مصدر السلطات، وتزايد الغضب على سلفه لذات السبب حتى أن عبد العزيز باشا فهمي الفقيه الدستوري الكبير وقتها بعث إليه خطابا يرجوه باسم الوطن أن يصدر الدستور كما تم الاتفاق عليه فى لجنة الثلاثين دون تعديلات.

ويورد المستشار سعيد الجمل فى دراسة تاريخية أبرز التعديلات التى قيل أن وزارة ثروت أدخلتها على الدستور فيما يلى :

1ــ النص على ان الملك هو القائد الأعلى للقوات البرية والبحرية وهو الذي يعلن الحرب ويعقد الصلح بعيدا عن الحكومة.

2ــ منح الملك حق تعيين الوزراء واقالتهم بما يعنى ان الحكومة تتحول إلى تابع للسراى.

3ــ جعل افتتاح الملك للبرلمان كل عام اختياريا.

4ــ تفويض الحكومة بدلا من البرلمان حق منح الاحتكارات والالتزامات.

ورضخت حكومة يحيى إبراهيم للمطالب الشعبية وأقرت الدستور كما أعدته لجنة الثلاثين مع استثناء المادتين الخاصتين بالسودان والتى أصرت بريطانيا على حذفهما. وأصدر الملك فؤاد فى 19 ابريل 1923 أمرا باصداره ، وهنا فإنه لم يكن منحة من الملك وانما جاء تحت ضغط شعبى متزايد.

ثمار الدستور

والواضح أن موقف الوفد من الدستور تدرج من وصمه لجنة تشكيله بلجنة الأشقياء إلى المشاركة بشكل غير مباشر فى اقتراح بعض التعديلات إلى استثماره فى الفوز بأول حكومة شعبية منتخبة انتخابا حقيقيا.

 ففي سبتمبر 1923 عاد سعد زغلول بعد أن أفرج عنه صحيا وأدارت حكومة يحيى إبراهيم الانتخابات البرلمانية بحياد تام وحقيقى مما أسفر عن فوز الوفد بـ194 مقعد من إجمالى 214 مقعدا واستقال يحيى ابراهيم ودعا الملك فؤاد، الزعيم  سعد زغلول لتشكيل الحكومة.

ويلمح المؤرخ الكبير عبد الرحمن فهمي عدم ذكر الملك فى خطاب تأليف الوزارة أن المكلف نال ثقة الأمة، الا أن سعد أكمل ذلك فقال فى خطاب قبول الوزارة أنه قبل الوزارة احتراما لإرادة الأمة وارتكاز الحكومة على ثقة وكلائها.

ويمكن القول أن من أبرز خصائص دستور 1923 اعلانه فى المادة الأولى أن مصر دولة ذات سيادة ، وتأكيده أن الأمة المصرية هى مصر السلطات. بالاضافة إلى كفالة الحرية الشخصية وعدم القبض على أى انسان إلا فى اطار القانوني. كما كفل حرية الصحافة فى المادة رقم 15 وحظر فى المادة السابعة ابعاد أى مصر بعيدا عن الديار المصرية وحظرت المادة العاشرة هقوبة مصادرة الأموال، ونصت المادة الحادية عشر على استقلال القضاء . كما نصت المادة الثالثة عشر على مسئولية الحكومة امام البرلمان.

اترك تعليق