بدل السكوت
ــــــــــــــــــــ
ما فعله الخوف في أهل الابداع
في أزمنة الخوف تنعقد الألسنة، وتنحبس الأنفاس، ويصمت كثير مّن ينتظر الناس كلامهم طلبا للسلامة وتجنبا للندامة، والأقسى إيلاما أن هُناك مَن يُجبره الخوف العميق على الكلام بما لا يؤمن، ليسمع الناس منه عجائب وغرائب.
في يوم ما وقف الفنان دريد لحام أمام الرئيس السوري السابق بشار الأسد وقال له “إني أحبك”، وكان حسبما نُقل عنه مدفوعا بالخوف، ومستسلما للتملق الاجباري، لأنه كما صرح بعد سقوط الرئيس السوري ونظامه “لو كُنت انتقدت نظام الأسد لجمعتم عظامي اليوم من سجن صيدنايا”.
يُمكن استسهال تقريع الفنان السوري ولومه على كذبه في إدعاء حُب القائد وهو في سلطته، ويُمكن لمَن خارج المشهد أن ينعتوه بالجبن، والخنوع، لكننا لا نُدرك يقينا درجة الخوف التي قد تدفع إنسان ما إلى النطق بعكس مشاعره، لأننا لم نجربها.
ففي مصر يخاف المبدعون من التجاهل وانحسار الأضواء وضيق الأحوال، وربما في بعض الازمنة يخشون السجن والتشريد والتشوية، لكن هناك بيئات عربية أخرى يخاف فيها المبدعون من السحل والتعذيب والقتل وتصفية الأهل والأقارب وغيرها من الممارسات الحيوانية التي تنبعث من القرون الوسطى.
تُذكرنا المآسي العربية المُحيطة بدرجات أعمق من الخوف دفعت الخائفين إلى الكذب علنا وتحمل كُل مهين في سبيل النجاة من سلطات قمعية تظن أنها تمتلك الأرض ومن عليها من بشر.
يعتبر مشهد قاعة الخُلد بالعراق في يوليو 1979 مشهدا مؤسسا لسلاح الخوف في العالم العربي. يدخل صدام حسين الذي تولى الرئاسة قبل أيام قليلة إلى القاعة وخلفه رجاله ليُعلن بدء مؤتمر حزب البعث. يفتتح صدام المجلس بقوله إن أحد كوادر الحزب يُريد الاعتراف بشأن أكبر مؤامرة تعرض لها الحزب. يقف رجل تبدو عليه آثار التعذيب ليقول انه اتفق على مؤامرة للاستيلاء على القيادة لصالح دولة أخرى ومعه عدد من العناصر من قيادات الحزب، وأنهم اتفقوا على قتل صدام حسين.
يُخرج صدام سيجارا كوبيا ويشعله، ثُم يطلب من كل مَن يسميه صاحب الاعتراف الوقوف والخروج من القاعة.لا يصدق الرفاق ما يحدث وهم يقفون عقب سماع أسماءهم لتسحبهم أيدي المباحثيين واحدا تلو الآخر إلى الخارج. تتدحرج دمعة ساخنة على وجه صدام تبكي خيانة الرفاق، ليقرر الحزب تفويض الزعيم في محاسبة المتآمرين. يُحكم على الخونة المفترضين بالاعدام رميا بالرصاص، وتُدعى قيادات الحزب من المحافظات للمشاركة. يُساق الجميع لساحة رماية نائية ويُعرض المتهمون بالخيانة من أعضاء الحزب في صف طويل كأهداف حية جاهزة للرماية، ويمنح كل رئيس لجنة مركزية بالحزب بندقية ويطلب منهم جميعا اعدام رفاقهم الخونة، وإلا نالوا مصيرهم.
تزأر الرصاصات، وتتناثر بقع الدم، ويتعلم الجميع الدرس جيدا، فالخوف هو المُحرك، والخوف هو الباعث، والخوف هو الدافع للطاعة، بل هو أيضا المحفز للابداع . لا يبدو غريبا بعدها أن يخرج كاتب مسرحي عراقي مثل يوسف الصايغ ليقول ” إن أبواب التاريخ تنفتح ليدخل صدام حسين” ويكتب شاعر عراقي آخر يُدعى لوىء حقي قصيدة في محبة صدام تقول ” العاذلون ويا لقلبي في هوى صدام/ كل العالمين ضرائر”. وتتنافس الكذبات من صفوة البشر علماء ومفكرين وفنانين في مديح الديكتاتور خوفا وطلبا للنجاة.
يبدو الأمر أكثر مرارة عندما نشد خيوط التاريخ لنعرف أن الخائفين قالوا كلاما جميلا لكنه كاذب، فكتب الشاعر أبو نواس يوما بعد أن بلغه أن الخليفة غاضب عليه ” بك استجير من الردى وأعوذ من سطوات باسك / وحياة راسك لا أعود لمثلها. وحياة راسك / فإذا قتلت أبا نواسك. من يكون أبا نواسك ” .
لذا لا تصدق مبدعا في زمن خوف.
والله أعلم
مصطفى عبيد
اترك تعليق