نشرت في الوفد 27-7-2020
خارج السطر
إهداءات الكتب فن ورسائل خالدة
أذوب عشقا بالكتب. أتلذذ برصاتها فوق الأرفف، أستحسن ملمس الأوراق والأغلفة، أقضى الساعات والساعات أقلب في كُتب قديمة وجديدة، ولا أشعر أن وقتا ضاع، أو حياة أهدرت.
ومّذ خطفتني القراءات، وتعاطيت الكُتب، وتمرمغ قلبي بين حكايات التاريخ، وكرزات الأدب، وأنا مُمتن لكل كاتب، متعاطف معه، مُقدر لما يخُط حتى لو اختلفت معه، وقابل لأعذاره، محسن الظن به، أعتقد أن الله سيغفر للكتاب يوم القيامة لأنهم باحوا ودونوا وأمتعوا الناس وأشعروهم بالجمال.
وبشكل خاص تهمني إهداءات الكتب، واستشرف نفس الكاتب فيها، وأستقرئ روحه، وتعجبني اللا تقليدية فيها، فأسرح مع إهداءات مؤلفين لافتة لا يُمكن نسيانها.
وأحسب أن أقوى إهداء قرأته في حياتي لكتاب عربي كان ذلك الذي خطه العملاق الجميل صلاح عيسي لكتابه “محاكمة فؤاد سراج الدين” والذي رد به ظلما تعرض له، وقضى فيه تماما على ظالمه.
يقول صلاح عيسى في ذلك الإهداء ” إلى الصحفي الكبير الأستاذ محسن محمد: الذي كان أول ما انجزه حين تولى رئاسة تحرير الجمهورية في مارس 1975 أن انتهز فرصة غبت فيها وراء أسوار السجون بتهمة أنني أفكر فألغى هوامش المقريزي التي كنت اكتبها كل صباح صلاة في معبد مصر الأم الشجاعة التي علمتنا العطاء والكبرياء. ثم كان آخر ما فعله أن انتهز فرصة مطاردة أجهزة الأمن لي طول عام 1977 لأنني لم أكف عن التفكير، ففصلني من عملي الصحفي محققا بذلك كما قال لي واحدة من أمنيات عمره. ذلك أمر يستحق معه أن أهدي إليه هذا الكتاب الذي بدأته وأنا مطارد وواصلت العمل فيه وأنا سجين، وأتممته وأنا أواجه حرب تجويع. ربما يقتنع أن هناك من البشر من يفضلون الموت واقفين على أن يعيشوا راكعين.”
ومثل هذه الإهداءات الضدية كان الدكتور طه حسين عميد الأدب العربي أول من استخدمها إذ كتب في إهداء إحدى كتبه في الثلاثينات ” إلى الذين لا يعملون، ويؤذي مشاعرهم أن يعمل الآخرون.”
ويكتب الروائي عبده خال في إهداء روايته “نباح” إهداء غريبا يقول فيه” إلى كل أوغاد العالم. لعنة كبيرة”.
ويبدو يوسف السباعي صادقا مع النفس، وهو يهدي قصة “أهل النفاق” إلى نفسه قائلا “إلى خير من استحق الإهداء، إلى أحب الناس إلى نفسي، وأقربهم إلى قلبي، إلى يوسف السباعي، ولو قلت غير هذا لكنت شيخ المنافقين.”
وتلفت الروائية السورية بإهداءات كتبها، الأنظار، فنجدها مثلا تهدي كتاب “رسائل إلى غسان كنفاني” إلى” الذين لم يولدوا بعد”، وتهدي رواية ” كوابيس بيروت ” إلى “عمال المطبعة، الذين يصفون في هذه اللحظة حروفها رغم زوبعة الصواريخ والقنابل، وهم يعرفون أن الكتاب لن يحمل أسماءهم”. أما الجزائرية الجميلة أحلام مستغانمي فتكتب في إهداء كتابها “نسيان دوت كوم” ما يلي ” إلى قراصنة كتبي. أنا مدينة لكم بانتشاري.”
ويبقى الكتاب كائنا حيا يطاول الزمن، وتظل الكتابة رسالة خالدة. والله أعلم.
مصطفى عبيد
اترك تعليق